فصل: أقسام الإيجاز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.أقسام الإيجاز:

131 - يقسم الرماني الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وإيجاز قصر، فيقول رضي الله عنه: الإيجاز على وجهين: حذف وقصر، والحذف إسقاط كلمة للاجتزاء فيها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام، والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف، فمن الحذف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومنه {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ومنه {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ومنه حذف الأجوبة، وهو أبلغ من الذكر، وما جاء منه في القرآن كثرة كقوله - جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ومنه قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، كأنه قيل حصلوا على النعيم، وإنّما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس فيه تذهب كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان، فحذف الجواب في قولك: (لو رأيت عليًا بين الصفين) أبلغ من الذكر لما بيناه.
هذا كلام الرماني في الإيجاز بالحذف، ونلاحظ في ذلك أمرين:
أولهما: أن الإيجاز هنا نسبي في جزء من الكلام، فقد يكون الكلام في مقام الإطناب، ولكن في جزء منه يكون الحذف، وذلك موجود في بعض ما ذكره من أمثلة من ذلك قوله تعالى في آية البر، فإنها مطنبة بالنسبة لبيان المتسحقين للبر، فقد قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
ونرى من هذا أنَّ مجموع الآية في بيانها لا يُعَدّ من قبيل الإيجاز، بل هو إطناب على المعنى الذي بيناه في الإطناب.
ولكن ذلك لا يمنع أن في جزء من الآية الكريمة إيجازًا، وعلى ذلك نقول: إن الإيجاز هنا نسبي أو جزئي.
ثانيهما: إن الحذف في ذاته بلاغة؛ إذ إنه يعطي الكلام قوة، ويثير الخيال ليتصور المحذوف أعلى من المبين، وقد بيِّنَ ذلك في حذف الجواب في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73].
ومن ذلك في معناه الذي يريده قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] فإنَّ جواب لو محذوف يلقي الرهبة في النفوس، وتذهب فيه العقول كل مذهب وتقدير، ولم يذكر البلاغة في إيجاز الحذف في مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وفي مثل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189]، وقد تظهر بلاغة الحذف في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ إذ إن في ذلك إشارة إلى شيوع القول فيها، وأن القرية كلها تكلمت، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أما قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}، فإن فيه تزكية للمتقين بجعلهم البر ذاته، وأن نفسوهم علت وزكت قلوبهم حتى صارت هي، وفي ذلك فوق هذا تصوير للمعنى قائمًا بالذين يتصفون، فيكمون محسوسًا معلومًا فيهم.
132 - ويعدُّ الرماني إيجاز القصر الذي عرفه بأنه بناء الكلام على تقليل الألفاظ، وبعده أغمض من إيجاز الحذف؛ لأن الحذف فيه غامض يحتاج إلى العلم بالمواضع التي يطبق فيها، ويقول: فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ومنه قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] ومنه قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] ومنه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] وقوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، ومنه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير.
وهو المثل الكامل لجوامع الكلم، وجلَّ كلام الله تعالى عن أن يكون له مثيل، ونلاحظ أنَّ الأمثلة التي ساقها تتصل بكلام قبلها، فليست منقطعة، فهي إمَّا أن تكون حكمة أو أعلى من حكمة أو قضية مستقلة مؤيدة للحكم الذي سبقها، مبينة حكمته، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهي ختام آية القصاص، التي يقول الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179].
وترى من هذا أنَّ الآية الكريمة تتميم لآية قبلها؛ لأنها بيان للحكمة والمصلحة الكاملة في القصاص؛ ليقدموا عليه غير نافرين؛ لأنه اتقاء لشر مستطير، وإذا كان القصاص في ذاته أمرًا لا تقبل عليه النفوس؛ لأنه قتل أو قطع، فالمصلحة أعظم من المضرة، ولا شك أن الألفاظ قصيرة، والمعاني التي تنطوى تحتها كثيرة، وخصوصًا أنَّ تنكير كلمة {حياة} يدل على تعظيم هذه الحياة التي تترتب على تنفيذ القصاص؛ لأنها تكون حياة آمنة سعيدة لا مزعجات فيها، وخصوصًا إذا كان مع حق القصاص حق العفوِ من المجنيّ عليه، فإنه يربِّي التواد، ويحلّ المحبة والمودة محل البغض والعداوة.
والآية الثانية التي ساقها الرماني هي {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، ونلاحظ أن الرماني قطعها عن سابقها ولاحقها من لفظ؛ إذ الآية هي قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23].
ولا شك أن الجملة التي اختاروها من الآية الكريمة فيها إيجاز القصر الذي يعد من أعلى جوامع الكلم، ولكن يقطعها عمَّا قبلها وما بعدها، وما جاءت فيه من أن الظاللمين يدعون الله تعالى ضارعين فيحال فزعهم وخوفهم حتى إذا آمنوا بغوا وطغوا، وفي قطع الكلمات عن أخواتها قطع للمعنى عمَّا يكنها ويظلها.
وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، هي في عمومها وشمولها فيها إيجاز قصر، يمكن أن تكون مثلًا عاليًا يستشهد به في القول، ويصدق على كل خب لئيم، ولكنه قطع الكلام عما قبله وما بعده، فالآية الكريمة بهذا النص السامي {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}، وكنا نود أن يأتي بالمثل الطيب في بيئته من كلمات سابقة له ولاحقة.
وقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}، هو كلام محكم بلغ أعلى ما تصل إليه بلاغة القول، وهي آية مستقلة، ولكنها متممة لما قبلها. فهي متممة العطف على قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 20، 21].
وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] هي حكمة عالية في ذاتها، ولكنها مسبوقة ولها لاحق بها يحدها، فهي جزء من قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وإنَّ إخراجها عمَّا قبلها وما بعدها يكون إخراجًا لها عمَّا يحدد أطرافها.
وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] وصف كامل لكل جماعة يغلب عليها الخور والجبن، ولكنها وصف للمنافقين، وإخراجها عما جاءت فيه يعمم معناها، وهي مخصوصة في السياق.
133 - وننتهي من هذه النظرات إلى الكلمات السامية، نجدها في ألفاظها ذات عموم، ولكن لها في حيزها خصوص مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فهي في حيزها ذات عموم؛ لأنَّ كونها حكمة لأحكام مقررة يجعل لها عمومًا، ولا يقيدها حيزه؛ لأنها منطلقة، وكذلك مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق: 7] أما الآيات الكريمات الأخرى، فإنها إذا ذكرت منفردة عن أخواتها كانت مثلًا من جوامع الكلم وكان لها العموم، وإذا أخذت مع أخواتها قيدت.
وعلى أيّ حال فإنَّ إيجاز الحذف فيها ثابت، ولا مانع من استعمالها كأعلى مثل سائر، والله أعلم.
وإن الإيجاز بغير حذف كلمات كثيرة في القرآن لا تكاد تخلو منه سورة، بل جزء من السورة، بل صفحة من صفحاته النورانية، وقد قلبنا بعض صفحات في القرآن فوجدنا العبارات الآتية، وكلها فيها إيجاز قصر، ومن ذلك:
1 - قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] فإن هذا النص له معان كثيرة شاملة يطبق في كل أمر يحبه الإنسان وعاقبته وبيئة، أو لا يدري عاقبته، ولا ما يترتب عليه، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
2 - ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] فإنَّ هذا النص الكريم يشير إلى المعركة الدائمة بين الخير والشر، والحق والباطل، والفضيلة والرذيلة، وأنّ سيطرة الرذيلة والشر والباطل فساد في الأرض ومقاومة الخير للشر دفع للفساد، وفيه إشارة إلى أنَّ مقاومة الشر بسلاحه من غير انحدار إلى الرذيلة رحمة بالناس، فدفع الشر رحمة ورد الاعتداء، وفي هذه الآية إشارة إلى نظرية الحرب الفاضلة والسلم الفاضلة.
3 - وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] فإن هذه الآية تبين وحدة الأمة الإسلامية مع غيرها بأوجز عبارة، فتشمل الوحدة الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، والبادي والحضري، وسكان الوبر، وسكان المدن، لا تفرقهم الألوان ولا الأسنة، وأنَّ التقوى يجب أن تكون لباسهم وشعارهم، وهي التي تعلى، ومثل ذلك قوله تعالى في إيجاز: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
4 - ومنها قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] فهي في إيجازها اعتذار عمَّا كان من امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، وإنها لأحداث كثيرة فوق ما فيه من دلالة على معان نفسية تكوهن في الوجدان الذي تحكمه شهوات، الضمير اللائم المحاسب الذي يصوره قول الله تعالى: {النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}.
5 - ومنها قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] فإنَّ هذا النص السامي بكلماته القليلة الموجزة فيه تصوير لحال المشركين الذين ألزمتهم الحجة ولكن لم يذعنوا عصبية وعنادًا، ومحافظة على سيطرتهم الغاشمة.
6 - ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] وفي هذا النص إيجاز فيه ألفاظ قليلة ومعانٍ كثيرة بمقدار جرائم المشركين في الاستهزاء بالنبي وأصحابه، ومضايقتهم في العبادة، ومنه الطواف بالبيت، فقد كانوا كلما لقوهم سخروا منهم، فمعنى كفيناك المستهزئين: عاقبناهم على ما فعلوا في الماضي، وخضدنا شوكتهم في الحاضر، وشغلناهم في القابل، وسلط الله الحق على باطلهم إلى آخر ما نالهم في الدنيا من خزي وما نالهم في الآخرة من عذاب.
7 - ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] فإنَّ هذا النص قليل الألفاظ فيه معان كثيرة؛ لأنه سبحانه يشير إلى أن هلاك الأمم إنما يكون إذا شاع الفساد بين آحادها، وإنما يشيع الفساد ممن غلبت أهواؤهم وسيطرت عليهم شهواتهم، وأن ذلك من الذين نشئوا مترفين لا يرون حق الحياة خالصًا إلّا لهم، فيعمّ الفساد في الأرض، وتنقطع الأمة وتتنابز، وكل ذلك من سيطرة المترفين.
ومن ذلك قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، أي: إنَّه مجزي بعمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ومثله قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39، 40] ومثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
134 - وإن العرب كانوا يميلون إلى الإيجاز في القول، ويعدون الإيجاز بلاغة؛ وذلك لأنَّهم لم يكونوا أهل قراءة وكتابة، بل كانوا أهل بيان باللسان، وقد صقلت بذلك كلماتهم وهذبت عباراتهم، وقد قال الجاحظ: إن الإيجاز في القرآن كان عند محاجّة العرب الأميين الذين يفهمون القول بالكلمات المشيرة غير المفصلة، والتفصيل من شأن من يعتمد على الكتاب دون اللسان.
ولقد كانوا يتبارون في الكلام الذي تدل ألفاظه على معانٍ كثيرة، وكانوا يعدون من أبلغ كلامهم قول بعض العرب: (القتل أنفى للقتل) أي: من يريد القتل إذا علم أنه سيقتل فإنه لا يقتل، ولا شك أن ذلك حق، وقد اتجه كثيرون من الأدباء والمفسرين إلى الموازنة بين ما يدَّعونه أبلغ قولهم، وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} والموضوع أيهما أبلغ وأجمل أداء، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.
وقد عقد الرماني في رسالته موازنة بين الجملتين، وإن كانت الموازنة ليست بين متماثلين، بل ليست بين متقاربين، وإن كان الموضوع متقاربًا فقال:
وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم: (القتل أنفى للقتل)، وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة والإيجاز، وذلك يظهر من أربعة أوجه: أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفًا بالحروف المتلائمة، أمَّا الكثرة في الفائدة ففيه كل ما في قولهم: (القتل أنفى للقتل) وزيادة معانٍ حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة القرب المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله تعالى، وأما الإيجاز في العبارة فإنَّ الذي هو نظير القتل أنفى للقتل (القصاص حياة) والأول أربعة عشر حرفًا والثاني عشرة أحرف، وإنما بعده عن الكلفة بالتكرار الذي فيه مشقة على النفس، فإن في قولهم: (القتل أنفى للقتل) تكرارًا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرار فهو مقصر في باب البلاغة عن أعلى طبقة، وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحسِّ وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، فاجتماع هذه الأمور التي ذكرناها صار أبلغ وأحسن وإن كان الأول بليغًا حسنًا.
وهناك وجه لم يذكره الرماني، وهو أنَّ كلمة العرب مقصورة على القتل، أما كلمة الله تعالى فإنها تشتمل القتل والاعتداء على الأطراف، فتشمل النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف والأذن بالأذن، والسن بالسن، بل تشمل أيضًا الجروح، فمعناها أشمل، وأمر آخر لم يذكره الرماني، وهو أنَّ كلمة القرآن إيجابية وسلبية معًا، فهي إيجابية في أنها تبين أن ثمة حياة رافهة هادية أمينة بالقصاص، وفيها معنى النفي، وهو ألَّا يكون اعتداء بأي نوع، أما كلمة العرب فلا تتجاوز المنع، وهو أن القتل يمنع القتل.
وأيضًا فإنَّ كلمة القصاص فيها معنى المساواة بين الجناية وعقوبتها، (والقتل أنفى للقتل) لا تستدعي بظاهر لفظها أن يكون القتل بالمساواة، بل لا تمنع أن يكون القتل اعتداء، والنص القرآني السامي الذي لا يسامي فوق كل ما يدخل من معانٍ على كلمة القتل أنفى للقتل.
هذا ما بدا لنا من زيادة كلمة القرآن من معانٍ على كلمة العرب، ولنعد من بعد إلى ما قاله الرماني في هذا المقام فهو يقول:
وظهور إعجازه في الأمور التي نبينها يكون بإجماع أمور يظهر بها للنفس أن الكلام من البلاغة في أعلى طبقة، لإيجازه وحسن رونقه، وعذوبة لفظه، وصحة معناه، كقول علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ فيما يحسنه، فهذا كلام عجيب، يغني ظهور حسنه عن وصفه، فمثل هذه الشذرات لا يظهر بها حكم، فإذا انتظم الكلام، حتى يكون كأقصر سورة أو أطول آية ظهر حكم الإعجاز، كما وقع التحدي في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، فبان الإعجاز عند ظهور مقدار السورة.
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الإعجاز القرآني ربما لا يبدو في الكلمة أو الجملة مقطعة مقطوعة من سابقتها ولاحقتها، ولو كانت الجملة إيجازًا إنما يبدو في السورة أو الطائفة من القرآن، ونحن نخالف الرماني في ذلك، فإن كلمات القرآن مع أخواتها لها إشعاع من المعاني يثير الخيال، والمتأمّل في معانيها ما دامت الجملة مستقلة في دلالتها، تأتي بمعان مفيدة، مثل قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وكقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 1 - 3] فكل جملة من هذه الجمل لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها.
ولقد ختم الرماني كلامه في الإيجاز بذكر فضله وخواصه، فقال رضي الله تعالى عنه:
وإذا عرفت الإيجاز ومراتبه، وتأمّلت ما جاء في القرآن منه عرفت فضيلته على سائر الكلام، وهو علوه على غيره من سائر الكلام، وعلوّه على غيره من أنواع البيان، والإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان، والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر، وتخليصها من الدرن، والإيجاز البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ، والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير، والإيجاز والإكثار إنما هما في المعنى الواحد، وذلك ظاهر في جملة العدد وتفصيله كقوله القاتل: إنَّ عنده خمسة وثلاثة واثنين في موضع عشرة، وقد يطول الكلام في البيان عن المعاني المختلفة وهو مع ذلك في نهاية الإيجاز. وإذا كان الأطناب في منزلة الأمر بحسن أكثر منها، فالإطناب حينئذ إيجاز كصفة ما يستحقه الله تعالى من الشكر على نعمه فإطناب فيه إيجاز.
وإن الرماني يتجه بهذا إلى معان ثلاثة:
أولها: أنه يصف الإيجاز بأن فيه تصفية للألفاظ من الكدرة ودرن القول وحشوه. وأنه البيان عن المعنى بأقل ألفاظ، وأن المعنى الكثير يكون في أقل مقدار من وحشوه، وأن المتكلم أو الكاتب يجهد فكره عند الاتجاه إلى الإيجاز ليأتي بأوجز لفظ يحمل أكبر معنى، وقد قال إمام من أئمة عصرنا في البيان في كتاب أرسله إلى صديق له وأطنب فيه اعذرني في هذا الإطناب فإنه ليس عندي وقت للإيجاز. لأنه بالنسبة للبشر جميعًا ليس سهلًا، لأن الإطناب فإنه إرسال الحقائق أرسال، أما الإيجاز، فإنه جمع للحقائق في أقل الألفاظ وأجملها، وأبعدها عن الكدر والدرن.
ثانيها: أن الإطناب نسبي، فإنه إذا كان المعنى كثيرًا واللفظ كثيرًا، فإنه يكون إطنابًا، وإذا كان المعنى الكثير يمكن أن تكون ألفاظه أكثر فإن ذلك يكون إيجازًا مسببًا.
ثالثهما: أن كل ألفاظ ذات معان كثيرة، وقد وضعت على قدرها، فإن كان الواضح قلة الألفاظ مع كثرة المعنى كان الإيجاز، وإن كان الواضح الكثرة في اللفظ والمعنى من غير تزيد، بل لمقصد، فهو إطناب.
والقرآن في حالى الإيجاز والإطناب محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.